مقالات

جنيف.. السلام على طريقة ترامب

 

بات من المؤكد دخول الإدارة الأمريكية (البيت الأبيض) في عمق الأزمة السودانية كلاعب رئيس، في توقيت شديد الحساسية والتأثير، حيث قطع الاستقطابُ الحادُّ بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في ملف الصراع السوداني، الطريقَ أمام أي تكهنات بوجود حلول مستوردة، أو وصف الحرب في السودان بالوكالة، أو التعاطي مع المشكل دون النظر داخل تعقيداته الداخلية عسكريا وسياسيا.
لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، مساعد الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية والشرق أوسطية مسعد بولس، الإثنين 11 أغسطس 2025 الجاري بجنيف، أو ما عُرف بلقاء (البرهان – بولس) يعد أول اختراق حقيقي، وربما الأهم منذ اندلاع الصراع في السودان، وذلك لتفكيكه مناهج مخاطبة الأزمة الخاطئة والاستغناء عن الالتفاف والقدرة على اقتراح حلول تستند إلى آليات تنفيذ حقيقية.

ذلك أنه عُرف بأنه أول لقاء جدي بين الطرفين لإنهاء الحرب في السودان وضرورة التدخل السريع لفرض المسار الإنساني، وفقًا للظروف الملحة لإنقاذ المدنيين، والشروع في وقف إطلاق نار طويل الأجل، واختبار ذلك بآليات دولية صارمة، ثم مخاطبة القضايا السياسية بصورة أكثر وضوحا تؤدي إلى سلام مستدام، ثم بناء بلد مستقر وفق حكم مدني، وذلك ضمن مصفوفة عُرفت بالتتابعية.
الشاهد أن هناك معادلات دولية جديدة تفرض واقعا جديدا على الأرض، ليس من المنطق التفكيرُ بعيدًا عن تأثيراتها، فالتغييرات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط والواقعة تحت تجاذب التعددية القطبية كواقع جديد، مع صعود قوي دولية جديدة كالصين والهند وتركيا ذات تأثير فعال في توازن القوى العالمي، إضافة إلى إعادة تموضع المصالح الكلي، هذا الواقع فرض ضغوطا حقيقية على الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتمتع لوقت طويل بالهيمنة الأحادية ضمن واقع عالمي طفيف التغيرات.

كذلك الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، تحكمها المصالح الحيوية بالدرجة الأولى وأولوياتها التاريخية، في مقدمتها أمن إسرائيل الذي يواجه تحديا وجوديا حقيقيا، والتنافس على ممرات التجارة العالمية ومصادر الطاقة الحيوية.
أما على مستوى الإقليم فنجد -إلى جانب الأطماع المحمومة في السيطرة على السواحل البحرية الاستراتيجية وممرات المياه المهمة، والتي يتمتع السودان جغرافيا بها- التنافس على الريادة الإقليمية بلغ أوجه، والانتقال من حالة الثبات التاريخي إلى إعادة تشكّل المنطقة وفق شروط جديدة ذات تأثير مباشر في الأنظمة والسياسات الكلية.
كما بدأ الانتباه إلى تأثير الجماعات غير الحكومية مثل الحركات المسلحة والميليشيات في الأمن العالمي.
وفي حالة السودان من المهم جدا التعامل مع وضع خاص يتمثل في الحالة (الترامبية) فترامب ينطلق من رؤيته كصانع سلام، يتطلع إلى نيل جائزة نوبل للسلام وإنهاء الحروب التاريخية وكيفية الاستفادة من ذلك في عقد صفقات استراتيجية تضمن المصالح الأمريكية في المنطقة.
بالضرورة توفر هذه المعطيات نقاطا رابحة ونادرة، بل تعد فرصة تاريخية، لتحقيق مكاسب عظيمة، في مقدمتها إنهاء الحرب دون التفريط في حقوق الأجيال السودانية القادمة.
مخطئ من يظن أن لقاء سويسرا مناورة عابرة أو كسب للوقت، فالرجلان «البرهان وترامب»، كلاهما يعلم أين توجد قدمه، وأين تكون خطواتها المقبلة، فاللقاء لم يتم بين ليلة وضحاها كما ظن البعض، وإنما جاء نتاج تفاهمات واتصالات ولقاءات سبقته بأشهر جمعت مسؤولين من مكتب المبعوث الأمريكي ومستشارين للرئيس البرهان.

السودان يسعى باستمرار إلى فتح حوار مباشر مع الإدارة الأمريكية وهو ما تحقق جزئيا إبّان فترة الرئيس السابق جو بايدن، والتي انتهت برفض السودان جنيف وتمسكه بحوار مباشر في جدة، وهو ما عُرف وقتها بلقاء (الأسئلة الحرجة).
الإدارة الأمريكية فعليا قفزت على دور الوكيل الإقليمي الداعم للميليشيا ولكن يبقي التساؤل حاضرا حول ملامح خطتها تجاه حليفها الاستراتيجي الأوروبي مهندس هذه الحرب الوجودية على السودان .
⁠ أقترح أن يشكّل السيد رئيس مجلس السيادة فريقا وطنيا يتولى مفاوضات استراتيجية، تنظر إلى مصالح البلاد العليا ومستقبل الأجيال، مع الأخذ في الاعتبار رفض أي صفقة شبيهة بما تم في اتفاقية سلام (الكونغو – رواندا) أو ما طرح سابقا كشروط لحل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية .
أما مؤتمر جنوب إفريقيا للقوى للسلام الذي تخطط له دولة الإمارات العربية المتحدة، الحليف الاستراتيجي للميليشيا، فهو آخر ورقة في تبييض صورتها الدموية التي خرجت بها من تمويلها قتلَ السودانيين.
أما المشهد الداخلي السوداني فالملاحَظ أن رحلة المعالجات قد بدأت بالفعل وما يجري الآن ليس كما يرى بعض المحللين ويوصّفونه بأنه تنفيذ إملاءات أو تفاهمات تمت مع الجانب الأمريكي، ولكن فيما يبدو أن أوان البحث عن إجابات (الأسئلة الحرجة) قد بدأ..
ولتحقيق ذلك سيحتاج السيد الفريق البرهان إلى إجراء جراحة عميقة ولكنها ضرورية وحتمية لإعادة هندسة المشهد العام. وهو ما سوف يفاجئ الكثيرين.
المطلوب إرادة حقيقية لتهيئة المسرح لعمل جاد، يشمل حزمة حلول متكاملة والمُضي نحو السلام وإعمار البلاد والانفتاح نحو حوار سوداني حقيقي.
سيتحقق السلام على طريقة ترامب في السودان وهي الفرصة الأقرب والأكثر أهمية، وهي الآن بين يدي البرهان وكابينت القيادة.
وإذا ما توفرت الإرادة فستكون نهاية الحرب وبداية عملية سلمية تُخرِج البلاد من هذا المأزق التاريخيّ.

شاهد عيان

منصة شاهد عيان الإلكترونية من المبادرات الحديثة التي تهدف إلى تمكين المواطنين من المشاركة في توثيق الأحداث والظواهر الاجتماعية والبيئية في مجتمعاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى