لم تَعُد الحرب في السودان مجرّد صراعٍ مسلّح على السلطة أو الجغرافيا، بل تحوّلت إلى واقعٍ شامل يطحن الإنسان قبل العمران، ويستهدف جوهر الحياة لا حدود الخرائط. فعلى مدى أكثر من عامين ونصف، واجه السودانيون حربًا مدمّرة وممنهجة، طالت الأمن والكرامة، ونسفت تفاصيل الحياة اليومية، حتى غدا القتل والنهب والاغتصاب، والتشريد واللجوء، وانهيار الخدمات، وتفكك مؤسسات الدولة، مشاهد يومية في وطنٍ أُنهك حتى العظم.
وسط هذا الخراب الممتد، لاذ الناس بالصمت؛ لا عجزًا عن الإحساس، بل لأن الألم حين يفيض يعجز عن الحكاية. وهكذا يقف السودان اليوم: بين صمتٍ مُثقَلٍ بالأوجاع، وصبرٍ عنيدٍ يُقاوِمُ الفناء.
حرب على الإنسان قبل المكان ..لم تكن هذه الحرب مواجهة سلاحٍ فحسب، بل حربًا مفتوحة على الإنسان السوداني ذاته. استُبيحت البيوت، ودُنِّست الحرمات، وتحولت المدن والقرى إلى مساحات خوف دائم. ملايين اقتُلعوا من ديارهم، تمزقت الأسر، وتبعثرت الذكريات، وغابت أبسط مقومات الاستقرار، حتى صار البقاء نفسه فعل مقاومة يومي.
وفي هذا المناخ القاسي، غدا الصمت ضرورة للبقاء، ودرعًا نفسيًا يحمي الناس من الانهيار الكامل؛ صمتٌ لا يعني الرضوخ، بل محاولة لترميم الذات في عالمٍ يتداعى بلا رحمة.
الصمت المُثقَل بالأوجاع… لغة الألم العميق
في معسكرات النزوح، وعلى طرق الهجرة، وتحت القصف، تتراكم الحكايات في الصدور دون أن تجد طريقها إلى الكلمات. ليس لأن الناس لا يريدون البوح، بل لأن حجم الوجع تجاوز قدرة اللغة على الاحتمال.
هناك صمت الخوف، وصمت الفقد، وصمت من استغاث بالعالم طويلًا فلم يُجَب. صمتٌ ليس فراغًا، بل امتلاء خانق، وصرخة مكتومة تختصر مأساة وطنٍ أُنهك حتى العجز عن الشكوى.
الانهيار الظاهر… ذروة صبرٍ طويل
ما يبدو للبعض انهيارًا مفاجئًا، هو في حقيقته حصيلة طبيعية لاستنزافٍ ممتد. صبر طال أكثر مما تحتمل الطبيعة البشرية، وضغوط لا تتوقف، وخذلان متكرر، وأمان يتآكل تدريجيًا.
فالانكسار هنا لا يدل على ضعف، بل على صبرٍ تجاوز حدوده الإنسانية في ظروفٍ بالغة القسوة؛ إذ إن من انهار اليوم، كان صامدًا بالأمس بما يفوق الاحتمال.
القوات المسلحة والمساندون… درع الوطن في زمن الانكشاف ..وسط هذا المشهد المعتم، برزت القوات المسلحة السودانية، ومعها الكتائب والقوى الوطنية المساندة، بوصفها خط الدفاع الأخير عن بقاء الدولة. لم تكن معركتها عسكرية فحسب، بل معركة وجود وصون لكيان الوطن.
وفي وقتٍ تهاوت فيه مؤسسات وتوارى فاعلون، ثبت الجيش في خطوط النار، وقدّم تضحيات جسيمة دفاعًا عن الأرض والعِرض والسيادة. وأسهمت القوى المساندة في حماية المجتمعات، وسدّ الثغرات، ومنع الانزلاق الكامل نحو الفوضى، تعبيرًا عن وعيٍ جمعيٍ بأن سقوط الدولة يعني ضياع الإنسان السوداني.
الميليشيات والدعم الخارجي… جريمة مركبة …إن إطالة أمد هذه الحرب لم تكن ممكنة لولا الدعم الخارجي المتواصل الذي تتلقاه الميليشيا المتمردة (الدعم السريع)، ومعها الحركة الشعبية – جناح عبدالعزيز الحلو، في صورة تمويل وتسليح وتغطية سياسية وإعلامية، رغم سجلّهما الحافل باستهداف المدنيين، وتدمير القرى، وارتكاب جرائم ترقى إلى الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.
إن الواجب الأخلاقي والقانوني يفرض على المجتمع الدولي الانتقال من مربع الصمت إلى تجريمٍ صريح لهذه الجماعات، واعتبارها منظمات إرهابية لا تختلف في سلوكها وأهدافها عن أبشع التنظيمات التي عاثت فسادًا في المنطقة. فهذه الميليشيات لا تخوض حربًا سياسية، بل تمارس عنفًا ممنهجًا ضد الإنسان السوداني، وتسعى إلى تفكيك الدولة، وتمزيق المجتمع، وفرض واقع الفوضى بقوة السلاح.
والعمل على وقف نزيف الدم، وحماية المدنيين، وتهيئة الطريق أمام حلٍ وطني يحفظ وحدة السودان وسيادته.
خذلان العالم… صمتٌ يطيل المأساة
في مقابل هذا الصمود الداخلي، بدا الموقف الدولي أكثر قسوة. صمت المنظمات الحقوقية، وتباطؤ الأمم المتحدة، وعجز الاتحاد الإفريقي، وبرود الجامعة العربية، تجاوزت جميعها الحياد لتصبح صمتًا يطيل عمر المأساة.
انهارت شعارات حماية المدنيين أمام حسابات السياسة، وغابت العدالة حين احتاجها الضحايا، وتُرك المدنيون وحدهم في مواجهة القتل والنزوح، ما عمّق شعور السودانيين بأنهم خاضوا معركة بقاء غير متكافئة في عالمٍ أصمّ.
اللطف والتكافل… صمود المجتمع
حين تضعف الدولة، يتقدّم الإنسان ليسدّ الفراغ. المساعدة، والمأوى، واللقمة، وكلمة العزاء، تحوّلت إلى أفعال مقاومة صامتة. وقد شكّل التكافل الاجتماعي سدًا منيعًا أمام الانهيار الشامل، وحافظ على جذوة الإنسانية حيّة، خاصة في رعاية النساء والأطفال ضحايا العنف.
الوعي والعدالة… طريق الخلاص
لا خروج من هذا النفق المظلم دون وعيٍ صادق وعدالة منصفة. توثيق الجرائم، وإنصاف الضحايا، ومحاسبة الجناة، مسؤوليات لا تسقط بالتقادم. وعلى الإعلام والنخب الوطنية دورٌ مفصلي في كسر صمت الألم، وبناء خطاب وطني إنساني يرفض التطبيع مع العنف والفوضى.
خاتمة
هكذا يقف السودان اليوم: بين صمتٍ مُثقَلٍ بالأوجاع، وصبرٍ يُقاوِمُ الفناء. صمتٌ لا يعني الاستسلام، وصبرٌ لا يعني القبول بالوجع، بل إرادة شعبٍ يرفض أن يُمحى.
فليس كلُّ تعبٍ يُروى، ولا كلُّ ألمٍ يُقال، لكن التاريخ سيكتب أن هذا الشعب صمد حين كان الصمود أقسى الخيارات… منتظرًا فجرًا يعيد للوطن إنسانيته وكرامته.
✍🏽 راشد همت السودان: بين الصمتِ المُثقَلِ بالأوجاع وصبرٍ يُقاوِمُ الفناء











Leave a Reply