مقالات

مؤتمر لندن حول السودان (2).. منبر لتجار الحرب، وتغوّل على السيادة صباح المكي

كيف تحوّل مؤتمرٌ كان من المفترض أن يعالج أزمة السودان إلى منصة لمموليها — واختبار للعدالة الدولية.

تداعيات مؤتمر لندن: حين انحرفت العدالة وازداد نفوذ المتورطين
في الجزء الأول من هذا التحقيق، كشفنا عن الازدواجية المقلقة التي تواجه السودان: من جهة، دولة ذات سيادة تقف أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، مقدّمة أدلة دامغة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة بتهمة التواطؤ في جريمة إبادة جماعية؛ ومن جهة أخرى، منصة دبلوماسية في لندن حيث صُفق للمتهمين، وحُمي المتواطئون، وسُكت عمداً صوت الحكومة الشرعية للسودان.
كما كشفنا النقاب عن الإطلاق المنظم بدقة لما يُعرف بـ”المسار المدني الثالث” — وهو مبادرة مدعومة من المانحين تهدف إلى تجاوز السيادة السودانية عبر تلميع شخصيات غير منتخبة. كثير من هؤلاء معروفون لدى الشارع السوداني كمدنيين بالوكالة يتبعون أجندات المانحين، متنقلين بين شعارات مثل قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي، وتقدم، وصمود. وقد كانت هذه المجموعات بقيادة رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك. يُنظر إلى هؤلاء من قبل غالبية السودانيين على أنهم مرتبطون بأجندات خارجية لا تعكس طموحاتهم الوطنية. كانوا غائبين خلال أحلك ساعات السودان — حين كانت الخرطوم تحت الحصار والجنينة تُذبح — ورغم ذلك، جرى الترويج لهم لاحقًا كبدائل سياسية دون أي تفويض شعبي. رُوّج لهذا المسار كأنه انتقال مدني، لكنه في الحقيقة مشروع أجنبي مُغلف بلغة الديمقراطية.
في لندن، وتحت شعار العمل الإنساني، تم تسليح الدبلوماسية. تُرك مقعد السودان فارغًا، بينما مُنح الميكروفون والميداليات لأولئك المتورطين في تدمير البلاد. والنتيجة؟ عملية سلام بُنيت على الإقصاء، والتحريف، والمحو.
هذا الجزء الثاني من المقال يزيل الطبقات المتبقية — كاشفًا انهيار مؤتمر لندن، والانقسامات بين رعاته، والحملة الإماراتية الصامتة لقمع الحقيقة، والسؤال الأوسع الذي يواجه الآن النظام الدولي:
هل يمكن صنع السلام عبر إسكات السيادة؟ وماذا يحدث عندما تصبح العدالة نفسها قابلة للتفاوض؟

قمة النفاق
لم يتم فقط تهميش الحكومة السودانية الشرعية — الجهة التي تدافع عن سيادة البلاد ضد ميليشيا أجنبية مدعومة — بل تم محوها بالكامل. وفي المقابل، دُعيت الإمارات — المتهمة رسميًا في دعوى السودان أمام محكمة العدل الدولية بدعم الإبادة — ليس فقط للحضور، بل كُرمت كمساهم إنساني. أما تشاد وكينيا، ورغم الأدلة التي تربطهما بدعم عمليات ميليشيا الدعم السريع، فقد قُدّمتا كقوتين إقليميتين لتحقيق الاستقرار. وكانت المفارقة الصارخة أن المؤتمر عُقد باسم السودان، دون السودان. وقد أثار استبعاد الحكومة السودانية إدانة واسعة من وفدها القانوني والمجتمع المدني وحلفائها الإقليميين. وسأل المنتقدون: كيف يُمنح المتهمون بتأجيج الحرب دورًا في تشكيل مستقبل السودان بينما يُقصى الضحايا؟ ولماذا تواصل بريطانيا بيع الأسلحة للإمارات بينما تستضيف قمة لمناقشة الأزمة الإنسانية في السودان؟
وقد دافع وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي عن شمول جميع الأطراف بقوله:
“أي عملية سلام مستدامة تتطلب دعم جميع الفاعلين الإقليميين وما هو أبعد.”
الترجمة: حتى المتهمين بارتكاب جرائم حرب مرحبٌ بهم على الطاولة.
لكن هذه لم تكن دبلوماسية. كانت تواطؤًا.
أي عدالة هذه التي تُسكت صاحب السيادة وتُصفق للمتهم؟

قمة بُنيت على التناقضات، وأسقطها التواطؤ والتكتم
رغم تعهدات تجاوزت مليار دولار من المانحين الغربيين، انهار مؤتمر لندن تحت وطأة تناقضاته. فقد اعترض مسؤولون إماراتيون — وفقًا لتقارير — على صياغة أممية تشير إلى “تدفقات دعم أجنبي” لمليشيا الدعم السريع، معتبرين أن تلك اللغة تُشير صراحة إلى تورط أبوظبي. ومارسوا ضغوطًا على المنظمين لاستبدالها بتعبيرات مبهمة مثل “مساعدات إقليمية”، مصممة لتخفيف المسؤولية. وعلى الرغم من أن الإمارات ذُكرت بالاسم في ملف الدعوى السودانية أمام محكمة العدل الدولية، فقد طالبت بشطب كامل لأي إشارة أو تلميح أو محاسبة. ووصف أحد الدبلوماسيين حملة الضغط هذه بأنها “منسقة ومكثفة بلا هوادة”. وفي النهاية، رضخ المنظمون.
في صلب هذا الانهيار الدبلوماسي، كانت هناك رواية مستفزة دفعت بها الإمارات، وبدعم من عدة دول أوروبية، تسعى لمساواة القوات المسلحة السودانية بميليشيات الدعم السريع، من خلال تصوير الطرفين كأنهما مسؤولان بنفس القدر عن النزاع. وقد قوبل هذا الطرح برفض حازم من مصر وقطر والسعودية، التي رفضت شرعنة مليشيا متهمة رسميًا بالإبادة الجماعية، أو قبول تهميش القوات المسلحة السودانية من أي عملية سياسية مستقبلية. ونتيجة لذلك، فشل المؤتمر في إصدار بيان ختامي، ولم ترَ “مجموعة الاتصال” المقترحة النور أبدًا. وبدلًا من ذلك، كشفت الانقسامات — وخصوصًا بشأن الاعتراف بالقوات المسلحة السودانية أو استبعادها — عن تصدعات عميقة ولا يمكن التوفيق بينها بين مصر وقطر والسعودية من جهة، والإمارات إلى جانب عدد من الفاعلين الأوروبيين من جهة أخرى.
وكان توقيت هذا الخلاف بالغ الدلالة: ففي الوقت الذي كان السودان يسعى فيه إلى العدالة عبر القنوات القانونية، كانت أطراف دولية تعمل في الوقت ذاته على طمس الفوارق الجوهرية التي يستند إليها ملف السودان القضائي.
والنتيجة؟ بيان ختامي فارغ المضمون، وغياب كامل لأي إعلان مشترك — ليس بسبب الخلاف حول المساعدات، بل لأن الضغوط السياسية اختطفت العملية برمتها. لم تكن هذه دبلوماسية. بل كانت رقابة مفروضة وتواطؤ من أولئك الذين لديهم الكثير ليُخفوه.
ومن خلال السيطرة على السردية، نجحت الإمارات في حماية نفسها من التدقيق، وغسلت دورها من السجل الرسمي — حتى مع تزايد الأدلة الدامغة. لقد استخدمت الإمارات نفوذها لخنق الحقيقة، في عالم يُكافئ فيه الصمت بالإفلات من العقاب. ومرة أخرى، سمح لها النظام الدولي بذلك.

وهم السلام وخداع الدبلوماسية
ما حدث في لندن لم يكن عن السلام — وبالتأكيد لم يكن عن السودان. لقد كان عن السيطرة. لم تكن القمة المزعومة منتدىً للعدالة، بل عرضًا جيوسياسيًا: مسرحًا صُمم ليكافئ من ساهموا في تدمير السودان، ويُقصي أولئك الذين يُقاتلون للحفاظ عليه. رُسمت الخرائط في الغرف الخلفية، لا بإرادة الشعوب. أُعطي تجار الحروب الميكروفونات؛ ودُفع بالناجين إلى الهوامش.
الصرخات القادمة من لاهاي — حيث يسعى السودان إلى العدالة — اختنقت في ضباب ناعم من التعهدات والبيانات الصحفية. أسموه تجمعًا إنسانيًا. لكن أين الضحايا؟ أين دارفور؟ أين المساليت؟ أين كان السودان نفسه؟
لم يُذكر شيء عن الإبادة الجماعية. لم يكن هناك مقعد لوفد السودان القانوني. لم يكن هناك صوت لأولئك الذين يعيشون تحت الحصار، والتهجير، والمجازر. بل على العكس، احتُفي بمن سلّح ميليشيا الدعم السريع كـ “مانحين”. وأُعيد تصنيف من فجّروا النزاع كشركاء في السلام. أما من قاوموا — والذين لا يزالون يقاومون — فقد مُسحوا من المشهد.
لكن السودان لن يُحكم من قاعات المؤتمرات. لن يُدار بأجندات المانحين أو يُعاد رسمه في عواصم أجنبية. ولن يُقاد على أيدي من تلطخت أيديهم بمعاناته. من المحاكم الأوروبية إلى الشوارع المجروحة في السودان — ومن قلب الشتات السوداني — ترتفع الأصوات. لا تطلب الشفقة؛ بل تُطالب بالسيادة. لا تنتظر أن يتحدث أحد باسمها؛ بل تتحدث بنفسها. لا تطالب بسلام رمزي؛ بل بعدالة حقيقية تُحاسِب. لا تطلب مكانًا في رؤية غيرها؛ بل تبني مستقبلًا من صنع إرادتها.
هذه ليست مجرد مقاومة. بل هي عودة. هي رفضٌ لأن يُمحى التاريخ. إنها أمة تسترد ما هو حقٌ لها.
فبينما تُقام القمم والمؤتمرات، تدفن العائلات السودانية شهداءها. وبينما تنهار البيانات المشتركة، تنهض المقاومة. وبينما يحاول الآخرون التحدث باسم السودان — فإن السودان يتحدث بنفسه.

ردود الفعل العالمية: مؤتمر سقط بسبب الإقصاء والانقسام والعمى الدبلوماسي
أثار انهيار مؤتمر لندن موجة انتقادات واسعة في وسائل الإعلام الدولية ودوائر المجتمع المدني. ففي تقرير موقع Middle East Eye بعنوان: “مؤتمر لندن حول السودان ينتهي بفشل دبلوماسي بينما تعلن قوات الدعم السريع حكومة موازية” (17 أبريل 2025)، وُصف المؤتمر بأنه إخفاق دبلوماسي، عُقد دون وجود السودان، بينما مُنحت المنصة لأطراف متهمة بتأجيج الحرب.
أما صحيفة The Guardian، فقد نشرت تقريرًا بعنوان: “مؤتمر المملكة المتحدة حول السودان يفشل في تشكيل مجموعة اتصال لمحادثات وقف إطلاق النار” (16 أبريل 2025)، وأشارت فيه إلى انهيار المحادثات وسط خلافات بين القوى العربية، مع غياب كامل لأي إشارة إلى حماية المدنيين أو الإبادة الجماعية.
وكذلك نقلت Reuters في تقريرها “لا اتفاق نهائي في مؤتمر لندن بشأن السودان، وسط خلافات بين القوى العربية” (16 أبريل 2025)، تفاصيل الانقسام السياسي الحاد — لا سيما بين الإمارات ومصر — والذي أفشل تشكيل موقف موحد تجاه السودان.
ومن خلال هذه التقارير الثلاثة، برزت رسالة واحدة بوضوح: لقد وُجّهت انتقادات لاذعة لبريطانيا، التي اتُهمت بتمكين عملية شرعنة الجناة، وتهميش الضحايا، وتقديم “لا شيء ملموس”. ما وُصف بأنه قمة إنسانية، تحوّل إلى مسرح للإفلات من العقاب.

كلمة أخيرة إلى صانعي القرار في الغرب: السودان ليس ملعبًا لكم
السودان ليس حقل تجارب للدبلوماسية الغربية، ولا مشروعًا مؤقتًا للمانحين، ولا رقعة شطرنج لصراعات النفوذ بين القوى الإقليمية. إنه وطن ذو سيادة، ينزف من جراح تدخلات أجنبية، وخيانات سياسية، واستغلال إنساني متعمد. إن كنتم تبحثون فعلًا عن السلام في السودان، فابدأوا بالتواضع: تنحّوا جانبًا، استمعوا لصوت أهله، واحترموا إرادتهم. توقفوا عن تسليح من أشعلوا النار. توقفوا عن التصفيق للمتهمين بتمويل العنف. توقفوا عن فرض الحلول على شعب دفع ثمن كرامته وحقه في الحرية بالدماء. لا تبيّضوا جرائم الإبادة تحت لافتات دبلوماسية، ولا تستبدلوا العدالة بوعود فارغة وبيانات صحفية مُنمقة. السودان يتذكّر، وتاريخه لن ينسى من وقف إلى جانبه ومن وقف ضده. هذه ليست نهاية قصة السودان، بل هي بداية عودته — بصوته، بشروطه، وبإرادة لا تُقهر من شعبه.

شاهد عيان

منصة شاهد عيان الإلكترونية من المبادرات الحديثة التي تهدف إلى تمكين المواطنين من المشاركة في توثيق الأحداث والظواهر الاجتماعية والبيئية في مجتمعاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى