تأثير المكان علي الفرد في ظل العودة للديار آفاق محمد بابكر

ليس هناك في الحياة اليومية مكان أكثر ألفة والتصاقًا بالمعاني الإنسانية للمرء من المنزل وقد فالمنزل أشمل في معناه من البيت أو المسكن أو الدار لأنه يحوي ذلك وأكثر ليدل على المكان الذي يقيم فيه المرء إقامة طويلة أو عابرة وتبدأ علاقة الإنسان بهذا المكان من خلال المعرفة المرتبطة به، وهناك نوعان من المعرفة التي يكتسبها المرء من خلال وجوده في المحيط المكاني وهما: معرفة داخلية وأخرى خارجية. وحينما نتأمل الأماكن التي نزلنا فيها في حياتنا نجدها متنوعة، ولكل نوع منها خصائص تنعكس على علاقتنا بالمكان، فعلاقتنا بالبيت تختلف عنها مع الشقة المستأجرة أو الفندق أو السكن الداخلي أو الغرفة، والبيت الذي عاش فيه المرء طفولته يختلف عن البيت الذي انتقل فيه بعد الزواج أو جاء إليه بعد التقاعد. وإضافة إلى العمر، فهناك عناصر أخرى كثيرة تؤثر على العلاقة بيننا وبين المكان، منها حالة المرء في بداية علاقته بالمكان من الناحية المادية والوظيفية والاجتماعية ومن الناحية النفسية ويسجل الدماغ أقوى الذكريات للإنسان مع المكان حينما يوجد أكثر من عنصر مرتبطان بالشخصية، فإذا حصل للمرء حدث معين ورافقه تأثير نفسي بارز فإن الذاكرة تستعيد الحدث مربوطًا على الدوام بالمكان نفسه مهما طال الزمن ويجد المرء ذاكرته مليئة بالمواقف والأحداث والأفكار وكلها تأتي في سياق يضع المكان إطارًا يُمسك بتلك الذكريات. والملاحظ أن المكان الأول الذي سكنه المرء في حياته وغالبًا ما يكون في طفولته هو النموذج الذي تتشكل من خلاله بقية الأمكنة ويؤكد عالم النفس (سيجموند فرويد )على أن مكان الطفولة هو الإطار الطبيعي للقصص التي تظهر للمرء في أحلامه مهما بلغ به العمر ومهما كثرت تجاربه وتعددت خبراته في الحياة ويعود السبب في ذلك إلى أن العلاقة بالمكان تضع صيغة للخبرة في الدماغ وتكون الصيغة الأولى إذا توفرت لها عوامل الاستقرار والوعي فهنا تكون الأكثر رسوخًا ومن الطبيعي أن يكون حنين الإنسان لموطنه الأول غالبًا على أي موطن آخر كما عبر عن ذلك الشاعر أبوتمام في بيته الشهير: «كم منزل في الأرض يألفه الفتى.. وحنينه أبدًا لأوّل منزل» وللمكان او المنشأ أهمية في تشكيل رؤيتنا للعالم فقد لاحظ الباحث “ديفيد نوغل”، أن أي أفكار نتخيلها أو قصص نسمعها عن الآخرين لا نستطيع فهمها إلا من خلال تصوّرها في إطار مكاني واضح وإذا كنّا لا نعرف المكان المشار إليه في القصة فإننا في الغالب نشكل مكانًا مألوفًا لنا ونحشر الأحداث فية ومن خلال هذه الفرضية، فإن فهم كل واحد منّا لقصة معينة يختلف عن فهم الآخر لها، لأنها تشكلت في صيغ مكانية مختلفة.
إن القصص التي لا تظهر فيها معالم للشخصية أو للمكان تجعل خيالنا يستعيد صورة المنشأ القديمة المخزنة في الذاكرة فلو كانت القصة جاءت هكذا: «خرج رجل في بداية الاربعينات من منزلة بحي الديوم الشرقية في وسط الخرطوم الي عملة في مصحلة الاراضي في السوق العربي ،واستقل الرجل في رحلتة مواصلات السوق العربي من شارع القصر جنوب ومر خلال الرحلة بعدة محطات باشدار ، الغالي ، القرشي وصولا الي داخل السوق العربي ورحلة الرجل مشيا من مكان المواصلات حتي يصل الي مكان عملة »؛ فإن استدراج صورة المكان في ذاكرة المتلقي ستجعلنا أمام صورة متعددة لها صلة بالمنازل المتصلة والشوراع واللافتات وحتي رائحة المخابز والطعمية والزلابية ، يظهر السوق العربي بكل تفاصيلة المكونة لكل شخص عاش في الخرطوم وارتاد وسطها تظهر في الذاكرة صورة واضحة تعج بالاحاسيس مفعمه بالحواس الخمسة بل من الممكن ان تلك الصورة سبب في الاسترخاء وبعث الطمأنينة في النفس ،فمن المتوقع أن تكون صورة المكان تكون مجلوبة من الذاكرة الادراكية الحسية للشخص دعونا نقرأ المقطع التالي المأخوذ من قصة “أصدقاء وأقدار” لمؤلفتها ليندا هوغان: «عندما طَعَنَتْ جون كيم المرأة الكورية التي تقطن في البيت المجاور لنا زوجها الضخم في معدته الممتلئة كان والدي أول من علم بالأمر وعندما اصطدمت سيارة البويك بنافذة غرفة نوم سيلفيا سميث كان والدي أولَ من حضر هناك ممسكًا السيدة سميث بثوب نومها ويداها السمينتان الشاحبتان تحاولان تغطية اللفافات في شعرها». فكل واحد سيضع مكانًا بمواصفات معينة لهذا الحدث ويرسم المكان والشخصيات ويعطيها قيمة أخلاقية. وبالتركيز على عنصر المكان في المقطع السابق، فمن المتوقع أن يكون المكان مأخوذًا من البيئة الغربية بسبب وجود عناصر دالة على ذلك ولكن تشكيل هذا المكان يخضع لخبرة كل شخص لكن تفاصيل المكان الدقيقة ستظل غير واضحة غير محسوسة تبقي صورة مجردة لاترتبط بوجدان ولاتحرك عاطفة أو حنين
ما سبق يصلح أن يكون تعريفًا نظريًا عن تأثير المكان في رؤيتنا للعالم وعن قدرة المكان المسجل في ذاكرتنا على تشكيل صورة بقية الأمكنة التي نتخيلها ودور الخبرات السابقة في السيطرة على خيالنا بوضعه في حدود معينة يدور في خانتها على أن طبيعة المكان نفسه تلعب دورًا مهمًا في تشكيل المزاج النفسي والذهني للشخص في لحظة معينة وسيكون من المناسب مناقشة علاقتنا مع المكان المفتوح والمكان المغلق وتأثير هذه الأمكنة على سلوكنا وخاصة بعد انتقال الناس من القرى والأرياف والصحراء إلى المدن ومدى تكيّف الناس مع الفلل والشوارع والأحياء والعمارات لنتعرف من خلال الأمثلة على تأثير المكان على الشخصية، من هنا يظهر اثر العودة للديار في الاستقرار النفسي للفرد ودور الاحساس بالانتماء في رفع التقدير الذاتي للفرد فمن لا يبكي لفراق الوطن؟ ومن لا يشتاق لأرض وطنه؟ فلو لم يكن الوطن غالياً لهذه الدرجة لما سُمّي بـ”الوطن الأم” فالوطن هو تماماً كالأم الحنون التي تحتضن أطفالها وتمنحهم الشعور بالأمان والسكينة ومهما سافر الإنسان ومهما دار من بلدانٍ حول العالم فلن يجد أحنّ من حضن وطنه ولا أدفء منه ، الآن يتحقق حلم العودة ويصبح حقيقة ، حقيقة اننا سنعود ونعيد الخرطومةسيرتها الأولي، نحن من سنعيد بنائها ونفتح صفحة جديدة من التاريخ .