مقالات

التداخل الحدودي والقبلي وأثره على النزاعات المسلحة في السودان.. قراءة في حالة دارفور عبدالمنان ابكرعمر

يتميز السودان بحدود طويلة ومعقدة مع عدد من الدول الإفريقية تشمل تشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان. هذه الحدود الممتدة على أكثر من 6,000 كيلومتر، تتسم بضعف الرقابة الأمنية في كثير من مناطقها مما أوجد بيئة مواتية لحركة المواطنين والمجموعات القبلية عبر الحدود بحرية وأسهم في خلق تداخل قبلي وثقافي عابر للدول لا سيما في المناطق الغربية من السودان كإقليم دارفور.

يشكل الشريط الحدودي بين السودان وتشاد نموذجاً لتداخل قبلي عميق حيث تتقاسم العديد من القبائل ـ مثل الزغاوة، القمر، التاما، والمساليت، والرزيقات (قبائل رعوية)وقبائل اخرى ـ المجال الجغرافي والاجتماعي بين الدولتين. هذا الامتداد القبلي الذي يعود إلى ما قبل رسم الحدود الاستعمارية في مطلع القرن العشرين تجاهلته الدولة الحديثة في التخطيط الأمني والسياسي مما أوجد فراغاً استغلته الجماعات المسلحة.

وقد وثقت تقارير أممية وإفريقية متعددة أن الصراعات المسلحة في دارفور تأثرت بشدة بحالة التداخل هذه حيث أشار تقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2005 إلى أن “نحو 30% من المقاتلين في بعض المليشيات الدارفورية يحملون جنسيات تشادية أو من دول مجاورة”.

كما لعبت حركة القبائل الرعوية خاصة تلك التي تنتمي إلى إثنيات عربية مثل الرزيقات (التي ينتمي إليها آل دقلو)، دوراً محورياً في النزاعات إذ تتحرك هذه الجماعات موسمياً عبر الحدود بين دارفور وتشاد مرورًا بالمناطق الصحراوية والسافنا، بحثًا عن الماء والمرعى. وقد أدى ذلك إلى احتكاكات متكررة مع المجتمعات المستقرة وأشعل صراعات حول الموارد تحولت لاحقًا إلى صراعات مسلحة تم تسليح أطرافها من خارج الحدود.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الدعم السريع الذي يقوده محمد حمدان دقلو (حميدتي) استفاد في سنوات تأسيسه الأولى من الانتماء القبلي العابر للحدود حيث تم تجنيد مقاتلين من القبائل العربية وغيرها في السودان وتشاد وتوفير مسارات تهريب السلاح عبر الصحراء الكبرى بمساعدة جماعات مسلحة ليبية وتشادية بدعم وسند دولة الإمارات .

في عام 1994 اعتمدت حكومة الإنقاذ نظام الحكم الفيدرالي وتم تقسيم البلاد إلى 26 ولاية بدلًا من 9 أقاليم ولاحقًا زاد العدد إلى 18 ولاية بعد انفصال الجنوب بعدد عشرة ولاية . وجرى هذا التقسيم في كثير من الحالات على أسس قبلية بحتة خاصة في دارفور ما خلق حالة من “الإدارة القبلية المقنعة”.

وفي تقرير صادر عن “مركز الأهرام للدراسات السياسية” عام 2010 وُصِف هذا النظام بأنه “فيدرالية إثنية غير معلنة” إذ تحولت بعض الولايات والمحليات إلى إقطاعيات قبلية تدار من قبل زعماء محليين لهم ولاء أولاً لقبائلهم وليس للدولة.

وقد أسهم هذا النظام في تفاقم النزاعات القبلية حيث أظهرت إحصائية لمنظمة “مسارات السلام” أن عدد النزاعات القبلية المبلغ عنها في دارفور تضاعف من 14 نزاعًا مسلحًا عام 2000 إلى أكثر من 85 نزاعًا بين 2010 و2017 وغالبيتها اندلعت حول الموارد والحدود الإدارية.

منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع برز أثر التداخل الحدودي والقبلي بشكل واضح. حيث تشير تقارير “مجموعة الأزمات الدولية” إلى أن نسبة كبيرة من قوات الدعم السريع التي تنشط في دارفور وكردفان تتكون من مقاتلين جُندوا من داخل تشاد وليبيا، خصوصًا من قبائل الرزيقات والزغاوة والتبو.

كما أشارت تقارير صحفية فرنسية وتشادية إلى أن الدعم السريع فتح معسكرات تجنيد مرتزقة على الجانب التشادي من الحدود وخاصة في منطقة أم جرس مما أدى إلى توتر دبلوماسي بين البلدين في منتصف عام 2023.

ومن جهة أخرى فإن استمرار الفيدرالية القبلية ساعد على تفكك الدولة في أقاليمها حيث فقدت الحكومة المركزية السيطرة على معظم مناطق دارفور بينما تسيطر قوات الدعم السريع وتحالفات قبلية مسلحة على الواقع الميداني والإداري في عدد من المدن مثل نيالا، و الضعين، والجنينة، وزالنجي.

أمام هذا الواقع المعقد تبرز الحاجة إلى رؤية إصلاحية شاملة تتجاوز معالجة الأعراض إلى التعامل مع الجذور النظر في إصلاح نظام الحكم الفيدرالي ليقوم على معايير جغرافية واقتصادية واضحة بعيدًا عن الانتماء القبلي وإعادة تقويم تجربة الولايات والمحليات. توقيع اتفاقيات أمن حدودي مع تشاد وليبيا وتفعيل بروتوكولات مراقبة حركة البشر والسلاح وإطلاق آلية مشتركة لمراقبة تحركات الجماعات المسلحة في المناطق الحدودية. إطلاق مشاريع تنمية مشتركة في المناطق الحدودية تشمل مسارات الرُحل وتوفير الخدمات الأساسية مما يسهم في دمج المجتمعات الرعوية في الاقتصاد الوطني بدلاً من تحولها إلى خزان بشري للتجنيد المليشياوي. تعزيز الهوية الوطنية الجامعة عبر المناهج الدراسية، والإعلام، ومنظومة الأحزاب السياسية، وتجريم الخطاب القبلي في المؤسسات العامة.

إن فهم جذور النزاع في السودان وخاصة في دارفور لا يكتمل دون تحليل أثر التداخل الحدودي والقبلي مع تشاد وسياسات الحكم الفيدرالي القائم على القبلية. فهذه العوامل مجتمعة لم تكن فقط محركات للنزاعات بل كانت بيئة حاضنة لصعود المليشيات العنيفة مثل قوات الدعم السريع. وإن تجاهل إصلاح هذا الهيكل سيقود البلاد نحو مزيد من التفكك والانقسام في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى بناء دولة مواطنة تتجاوز القبلية والولاءات الضيقة.

شاهد عيان

منصة شاهد عيان الإلكترونية من المبادرات الحديثة التي تهدف إلى تمكين المواطنين من المشاركة في توثيق الأحداث والظواهر الاجتماعية والبيئية في مجتمعاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى